بعد تصريحات مثيرة لترامب.. نيجيريون يرفضون أن تكون بلادهم ساحة حرب باسم الدين

بعد تصريحات مثيرة لترامب.. نيجيريون يرفضون أن تكون بلادهم ساحة حرب باسم الدين
الرئيس النيجيري بولا تينوبو

في بلدٍ تتقاطع فيه الأديان كما تتقاطع طرق التجارة والقبائل، خرج النيجيريون من مختلف المعتقدات ليعبّروا عن رفضهم لما وصفوه بـ"التهديد الأخطر منذ سنوات" على سيادة بلادهم، بعد أن لوّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعملٍ عسكري ضد نيجيريا "لحماية المسيحيين" من "إبادة جماعية مزعومة"، لكن خلف هذا التصعيد، تتخفى شبكة معقدة من الحقائق والسرديات، يتداخل فيها الدين بالسياسة، والإرهاب بالمصالح، والحقيقة بالدعاية.

نيجيريا، أكبر دول إفريقيا من حيث عدد السكان، تقف منذ عقود على خطٍ فاصل بين شمالٍ ذي غالبية مسلمة وجنوبٍ ذي أغلبية مسيحية، ورغم هذا التنوع، لطالما كانت البلاد مثالًا للتعايش والتداخل الثقافي، قبل أن تتحول في السنوات الأخيرة إلى ساحة لصراعات مسلحة يغذيها الحرمان الاقتصادي وتراجع الثقة بالدولة وفق فرانس برس.

تقول الإحصاءات إن البلاد منقسمة دينيًا، لكن النيجيريين يعرفون أن الواقع أكثر تعقيدًا، ففي أسواق لاغوس، كما في القرى النائية في بلاتو، يعمل المسلم والمسيحي جنبًا إلى جنب، ويواجهان التحديات ذاتها غلاء المعيشة، البطالة، وتدهور الأمن.

يقول دانجوما ديكسون أوتا، وهو مسؤول مسيحي من ولاية بلاتو: "نعم، المسيحيون يُقتلون، ولكن لا يمكننا إنكار أن المسلمين يُقتلون أيضًا، الألم هنا لا يعرف ديانة".

العنف الذي لا لون له

على مدى العقدين الماضيين، شهدت مناطق "الحزام الأوسط" في نيجيريا مواجهات دامية بين مزارعين مسيحيين ورعاة ماشية مسلمين من قبيلة فولاني، بسبب تضاؤل الأراضي والمياه.

خلفت هذه الصراعات مئات القتلى، وقرىً محروقة، وأُسرًا مشتتة، لكن الخبراء يؤكدون أن جذور الأزمة بيئية واقتصادية أكثر منها دينية، فمع تراجع الأراضي الخصبة، وغياب سياسات فعالة لتنظيم الزراعة والرعي، يتحول الخلاف على قطعة أرض إلى نزاع دموي تُصبغ أبعاده بالدين لتبرير الفوضى، والنتيجة: دماء تسيل، وسرديات تتشكل، وغرباء يتحدثون باسم الضحايا.

وفي الأسابيع الأخيرة، تصدرت وسم "#إبادة_المسيحيين_في_نيجيريا" منصات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة وأوروبا.

وتبنّى مؤثرون وشخصيات يمينية هذا الخطاب لتصوير الصراع في نيجيريا بوصفه "حرباً مقدسة" ضد المسيحيين.

ومن هناك، وصل الصدى إلى واشنطن، ففي منشور على منصته "Truth Social"، قال ترامب إنه طلب من وزارة الدفاع الأمريكية وضع خطة "لعملية عسكرية محتملة ضد نيجيريا".

وفي حديث لاحق على متن الطائرة الرئاسية، قال: "إنهم يقتلون المسيحيين بأعداد كبيرة... لن نسمح بحدوث ذلك".

موجة من القلق

وردّ الرئيس النيجيري بولا تينوبو بحزم: "الحرية الدينية والتسامح قيم أساسية في هويتنا الوطنية، ولن نسمح بتشويهها".

يرى الباحث النيجيري أبو بكر غاماندي، وهو مسلم من ولاية بورنو، أن الخطاب الغربي عن "اضطهاد المسيحيين" يتجاهل حقيقة كبرى: "حتى الذين يروّجون لفكرة الإبادة يعرفون أنها غير صحيحة، الإرهاب في نيجيريا لا يفرّق بين مسجد وكنيسة".

فمنذ أكثر من عقد، تعاني نيجيريا من تمرد جماعة بوكو حرام وتنظيمات مسلحة أخرى في شمالها الشرقي، تستهدف المدنيين بلا تمييز.

ومع ذلك، يقول مراقبون إن الروايات الغربية الانتقائية تعكس أحيانًا مصالح سياسية أكثر من تعاطف إنساني.

سياسة خلف ستار الدين

يربط بعض المحللين تصريحات ترامب بموقف نيجيريا الرافض استقبال مهاجرين غير نيجيريين مُرحّلين من الولايات المتحدة.

يقول ييرفن نايدو، محلل شؤون إفريقيا في مؤسسة أوكسفورد إيكونوميكس: "رفضت نيجيريا استقبال المرحّلين، بينما وافقت دول أخرى مثل رواندا وغانا، وردّت واشنطن بتشديد التأشيرات، والآن نسمع خطابًا عن الاضطهاد الديني. هناك ترابط واضح".

تُظهر الوثائق الأمريكية أن شركة ضغط تُدعى "Moran Global Strategies" مارست ضغوطًا في واشنطن لترويج فكرة "الإبادة ضد المسيحيين"، ما يعكس كيف يمكن للوبيات سياسية ودينية أن تعيد صياغة واقع معقد بلغة عاطفية قابلة للتسويق.

بين الصدمة والسيادة

رغم الغضب الشعبي من تصريحات ترامب، رأى بعض القادة الدينيين في كلماته "جرس إنذار" حيث يقول القس جوزيف هاياب، رئيس الجمعية المسيحية في شمال نيجيريا: "ترامب لا يدعو إلى حرب ضد نيجيريا، بل إلى حرب ضد الإرهابيين. لكن يجب أن نوضح الصورة للعالم قبل أن يُقرر عنا".

وفي محاولة لاحتواء الأزمة، أعلنت الرئاسة النيجيرية نيتها تنظيم لقاء مباشر بين ترامب وتينوبو "لتوضيح المواقف وتنسيق الجهود الأمنية المشتركة".

صوت بين الخوف والفخر

في شوارع أبوجا وولايات الشمال والجنوب، تباينت ردود الفعل بين من يخشى أن تؤدي تصريحات ترامب إلى تأجيج التوترات الطائفية، ومن يرى أنها فرصة لتسليط الضوء على معاناة النيجيريين المنسية.

لكن ما يجمع الجميع هو القناعة بأن الحل لا يأتي من الخارج، وأن سيادة نيجيريا ليست ورقة للتفاوض.

تقول الشابة عائشة بالوغون من لاغوس: "نحن نعرف مشاكلنا، ولا نحتاج من أحد أن يهددنا باسم الدين، ما نحتاجه هو أمان وفرص للحياة".

القصة النيجيرية ليست عن المسيحيين ضد المسلمين، بل عن الإنسان ضد الفوضى، وعن بلدٍ يحاول أن يبني جسورًا وسط عواصف من السرديات المتناقضة.

وحين يتحدث السياسيون عن "حماية الإيمان"، يعرف النيجيريون أن الإيمان الحقيقي هو حماية الإنسان — لا استغلاله.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية